في سوريا، لم تكن السنوات الماضية مجرد أحداث عابرة، بل كانت تجربةً صاغت جيلاً كاملاً بدمائه ودموعه وصراعاته. جيلٌ كبر في قلب المعركة، وتشكّل وعيه وسط أصوات القذائف وصفارات الإنذار، بينما كان هناك جيل آخر، على هامش الثورة، لم يكن جزءًا منها بقدر ما كان متفرجًا على تداعياتها. واليوم، بعدما هدأت بعض الجبهات وتبدّلت الأحوال، نجد مفارقة غريبة: من عاش الثورة بكل تفاصيلها، وعانى الحرب والتهجير والفقر، يجد نفسه في الهامش، بينما من عاش بعيدًا عن أتون المعركة، في استقرارٍ نسبي، هو من يتصدر المشهد.
جيل تربى في الخنادق وآخر تربى في القاعات
لا يمكن وضع كل أبناء الثورة في سلة واحدة، فالفرق كبير بين من عاش في خطوط النار، متنقلًا بين الجبهات والملاجئ، وبين من كان يعيش في استقرار نسبي داخل مناطق النظام أو في الشمال، حيث المدارس مفتوحة والحياة اليومية لم تتوقف بشكل كامل.
- أبناء المقاتلين والثوار: هؤلاء لم تكن لديهم رفاهية التعليم ولا الفرص التي حصل عليها غيرهم. فقد كبروا بين النزوح والقصف، بين بيوت مهدّمة وأزقة غريبة، يبدّلون المدن كما يبدّل غيرهم الكتب الدراسية. هم الجيل الذي عاش الحرب قبل أن يفهم معنى الطفولة، والذي تعلّم السياسة قبل أن يتعلم الكتابة الصحيحة.
- أبناء التجار والقادة والمستقرين في مناطق النظام: هؤلاء، رغم أنهم جزء من الثورة، إلا أن بيئتهم كانت مختلفة. كان لديهم مدارس، وإن لم تكن بأفضل حال، وكان لديهم استقرار نسبي مكّنهم من التعلم واكتساب المهارات، بينما كان أقرانهم يحلمون برغيف خبز أو سقف يأويهم.
مفارقة القيادة بعد سنوات من النضال
اليوم، ونحن في مرحلة جديدة من عمر الثورة، نرى أن الذين كانوا يدرسون في الجامعات، ويعيشون في استقرارٍ نسبي، هم الذين باتوا يتحدثون عن مستقبل الثورة، ويخططون لمسارها، ويقودون مؤسساتها السياسية والعسكرية. بينما الذين حملوا الثورة على أكتافهم، وخسروا سنوات عمرهم في القتال والتهجير، يجدون أنفسهم مهمشين، لا لشيء سوى لأنهم لم يحصلوا على شهادات أكاديمية أو لم يكونوا في موقع يسمح لهم ببناء شبكة علاقات تخدمهم مستقبلاً.
هذه المفارقة تطرح سؤالًا جوهريًا: هل من العدل أن يُقصى من ضحّى لأنه لم يمتلك فرصة التعلم؟ وهل يُمنح القرار لمن عاش بعيدًا عن ساحات النزال لأنه فقط يحمل شهادة جامعية؟
الحلقة المفقودة: كيف نجسر الهوة؟
لا يمكن معالجة هذه الفجوة بتوزيع المناصب أو بمنح المجاهدين السابقين أدوارًا رمزية، بل يجب أن يكون هناك مشروع وطني حقيقي يستوعب أبناء الثورة الذين حُرموا من التعليم والاستقرار. وهذا يتطلب:
- برامج تعليمية مكثفة: يجب أن تكون هناك مبادرات تتيح لمن فاتهم التعليم أن يعوّضوا ما فاتهم، سواء عبر دورات تأهيلية أو تعليم مهني أو حتى مسارات جامعية خاصة.
- إشراكهم في القرار: لا يمكن بناء مستقبل الثورة بأيدٍ لم تعشها. لذلك، من الضروري أن يكون أبناء الميدان جزءًا من صناعة القرار، لا مجرد أتباع لمن كانوا بعيدين عن المعركة.
- تصحيح المفاهيم حول القيادة: ليس كل من حمل شهادة قادرًا على القيادة، وليس كل من لم يكمل تعليمه غير مؤهل. يجب أن يكون المعيار الأساسي هو الخبرة الحقيقية، والقدرة على الفهم والتخطيط، وليس مجرد الألقاب الأكاديمية.
الثورة تحتاج للجميع
الثورة السورية لم تكن حركة نخب، ولم تكن مشروعًا نظريًا يُدار من مكاتب مكيفة. كانت نضالًا حقيقيًا، شارك فيه من كان في الخنادق كما من كان في القاعات. واليوم، إن أردنا أن نستكمل هذا النضال، فعلينا أن نُعيد لكل فردٍ مكانه الطبيعي، لا أن نترك من قدّم التضحيات خلفنا لأن الظروف لم تسعفه، ونمنح القيادة لمن لم يعش سوى صدى الثورة من بعيد.
العدالة ليست فقط في إسقاط الطغيان، بل في بناء نظام جديد يُنصف الجميع.