في بلادٍ احترف فيها الطغاة فن “إخفاء الماضي” بقدر إتقانهم فن “إخفاء البشر”، تأتي العدالة الانتقالية كحاجة وجودية، لا كترفٍ قانوني. سوريا، التي ابتُلِيت لعقودٍ بنظامٍ إجرامي حوَّل الوطن إلى سجنٍ كبير، ثم حوَّل السجن إلى مقبرة، تقف اليوم على عتبة مرحلةٍ جديدة، حيث يطرح السؤال الكبير نفسه: هل نبدأ ببناء سوريا الجديدة فوق مقابر الماضي، أم ننقّب في الركام بحثًا عن الحقيقة التي ستشكّل أساس البناء الحقّ؟
لنتخيل سوريا كمنزل عاش سنوات طويلة تحت سيطرة لصوص؛ سرقوا الأثاث، كسروا النوافذ، وزرعوا العفن في الجدران. لا يمكن ببساطة طلاء الجدران ووضع زينة جديدة دون تنظيف الفوضى، دون ترميم الخراب، ودون ضمان ألا يعود اللصوص مرة أخرى. هذا هو جوهر العدالة الانتقالية.
من الناحية القانونية، العدالة الانتقالية تعني مجموعة من الإجراءات القضائية وغير القضائية، مثل المحاكمات، لجان الحقيقة، التعويضات، والإصلاحات المؤسسية، لضمان عدم إفلات المجرمين من العقاب، وإنصاف الضحايا، وتصحيح المسار السياسي والاجتماعي. لكنها ليست محاكماتٍ مسرحية، ولا حفلاتٍ جماعية لتقبيل الجلادين باسم “الوطنية والمصالحة”. إنها عملية معقدة تهدف إلى تحقيق توازن بين محاسبة المسؤولين عن الجرائم، وإنصاف الضحايا وذويهم، وبناء مجتمع جديد غير قائم على الكراهية والانتقام.
في الحالة السورية، العدالة الانتقالية ليست مجرد وسيلة لتحقيق العدل، بل شرطٌ لبقاء الدولة ذاتها، إذ لا يمكن لمجتمعٍ خرج من أتون حربٍ استمرت أكثر من عقد أن يُبنى على أرضية من الإنكار والتجاهل.
هناك من يرى أن الأولوية اليوم هي “إعادة الإعمار”، أو “المصالحة الوطنية”، لكن تجاهل العدالة الانتقالية يعني إعادة إنتاج العنف بأشكال أخرى. فالدول التي تجاهلت المساءلة وجدت نفسها بعد سنوات في أتون صراعات جديدة، لأن الظلم إذا لم يُعالج، يتحوّل إلى قنبلة موقوتة.
في الأرجنتين، أدى إفلات العسكر من العقاب بعد عقودٍ من القمع إلى موجاتٍ من الانتقام. أما في جنوب إفريقيا، فساهمت الحقيقة والمصارحة في تجنيب البلاد انفجارًا عرقيًا. سوريا، التي لم يُفتح فيها بعد ملف واحد من آلاف المجازر، ليست استثناءً، بل حالة صارخة على الحاجة إلى آليات كشف الحقيقة.
نظام الأسد لم يكن مجرد حكم استبدادي كلاسيكي، بل مؤسسة قائمة على العنف المُمَنهج، والإخفاء القسري، والتعذيب الذي تجاوز حدود الخيال. أي محاولة للتسوية الاجتماعية دون عدالة حقيقية ستنتج نموذجًا مشوّهًا من “السلام الزائف”.
العدالة في سوريا ليست رفاهية انتقامية، ولا يجب أن تُختزل في محاكمات إعلامية أو ثأر سياسي. المطلوب هو مسار مركّب، يبدأ بالمحاسبة الفعلية لمن تلطخت أيديهم بالدماء، ولا ينتهي عند تعويض الضحايا وإعادة تأهيل المؤسسات لتصبح خادمة للمواطن، لا أداة قمع له.
توضح تجارب العدالة الانتقالية في العالم أن هناك نهجين رئيسيين:
- الأول: المحاكمات الصارمة كما حدث في نورمبرغ بعد الحرب العالمية الثانية.
- الثاني: “المسامحة مقابل الحقيقة” كما في جنوب إفريقيا.
في سوريا، العفو الشامل قد يعني أن المجرمين سيحكموننا من جديد، كما أن العفو الجزئي هو ظلمٌ لمن دفع الغالي والنفيس على مر سنوات الحرب وإجباره على التعامل “بابتسامة” مع من ساهم في حرمانه من أهله وذويه وإبعاده عن منزله ومصادرة أعماله. وأما المحاكمات الصارمة، فهي إن قامت على العدل كما نؤمّل، فهي الطريق القويم لردّ الحقوق، وزجر القتلة، وتنظيف المجتمع من تجرؤهم على القتل والفساد.
أحد أكبر تحديات العدالة الانتقالية في سوريا هو أن النظام، ولو انهار، لا يزال موجودًا بأشخاصه، بشبكاته الاقتصادية، وبـ “فلوله”. ستكون هناك مقاومة شرسة لأي محاولة حقيقية لكشف الجرائم وتحقيق العدالة، وهذه المقاومة قد تكون معلنة ومنظمة، وقد تكون عشوائية تستمد قوّتها من التغاضي و”المسامحة غير المحدودة” تحت شعارات “السلم الأهلي” المتحابية مع الظالم ضد المظلوم.
بالإضافة إلى ذلك، تواجه سوريا أزمات اقتصادية وسياسية ضخمة، تجعل البعض يروّج لفكرة “الأولوية للاستقرار”، وهو ما يعني عمليًا إعادة إنتاج القديم، لكن بوجوه جديدة.
يجب علينا أن نحدد مسارات واضحة وشفافة للعدالة الانتقالية، الناس الذين ضحوا على مر عقود ينتظرون بفارغ الصبر هذا الأمر، وكما أنّ الأم لم تنسَ ابنها الذي استشهد تحت التعذيب، محال أن تنسَ أيضًا فكرة محاسبة قاتله.
ربما مما نحتاجه في هذه المرحلة:
- لجنة حقيقة مستقلة: يجب أن نبدأ بفتح الملفات المغلقة منذ عقود، وليس فقط ملفات الحرب التي دامت 14 عامًا الماضية، يجب أن نفتح ملفات مجازر الأسد الأب والابن، وملفات السجون على مدار حكم هذه العائلة الإجرامية.
- محاكمات عادلة: لا انتقام، ولا إفلات من العقاب. القضاء المستقل والصارم والعادل هو الضامن الوحيد لعدم انزلاق البلاد في فوضى الثأر.
- تعويض الضحايا: العدالة ليست فقط سجن الجلادين، بل أيضًا تعويض الناجين وإعادة تأهيلهم، وجعلهم نواة أساسية في مفاصل التغيير.
العدالة الانتقالية في سوريا ليست مجرد بند على طاولة المفاوضات، بل هي الركيزة التي سيُبنى عليها أي مستقبل مستدام. إذا تم التنازل عنها، فستعود سوريا إلى كونها مجرد سجن كبير ولكن أكثر حداثة، تنحى سجانوه السابقون وأوكلوا المهمة لأبنائهم!