م. مصعب كاخي – بعد ثلاثة أشهر من سقوط نظام بشار الأسد وتولي حكومة سورية جديدة محدودة الإمكانيات، يواجه نهر العاصي في محافظة حمص وضعًا بيئيًا حرجًا. يعد نهر العاصي (أو نهر أورونتس) شريانًا مائيًا حيويًا يمر بمحافظة حمص قبل أن يتابع جريانه نحو حماة ثم تركيا ENABBALADI.NET .سنوات الصراع والإهمال أدت إلى تدهور كبير في نوعية مياه النهر وتراكم مشاكل التلوث.
يستعرض هذا التقرير بشكل أكاديمي وتحقيقي شامل الحالة البيئية الحالية للنهر في حمص، وتأثيرات التلوث على السكان المحليين، إلى جانب سياق الوضع الاقتصادي خلال الثورة السورية وقدرة الحكومة الجديدة على الاستجابة. كما يقترح التقرير حلولًا عملية تتناسب مع الموارد المحدودة، مستفيدًا من دروس تجارب دول نامية، ويحدد الجهات الدولية التي يمكن التعاون معها لدعم جهود إنقاذ النهر.
الوضع البيئي الحالي لنهر العاصي في محافظة حمص

نفوق أعداد كبيرة من الأسماك على ضفاف نهر العاصي نتيجة التلوث الشديد (ريف إدلب، تشرين الثاني 2022). يظهر تغيّر لون المياه وانتشار الأسماك النافقة بسبب المخلفات العضوية والصناعية ENGLISH.ENABBALADI.NET
تعاني مياه نهر العاصي في حمص من مستويات تلوث مرتفعة ومتراكمة عبر السنين. وفقًا لمديرية البيئة في حمص (2022)، فإن مياه النهر ملوّثة بأسباب عديدة أبرزها التصريف المباشر لمياه الصرف الصحي غير المعالَجة في مجرى النهر، بالإضافة إلى طرح نفايات المنشآت الصناعية فيه (ENABBALADI.NET) . فجميع القرى الممتدة على ضفتي العاصي من المنبع حتى المصب تصب مياهها العادمة في النهر مباشرةً دون معالجة (ENABBALADI.NET)، ما يعني أن النهر تحوّل عمليًا إلى قناة صرف صحي مفتوحة. وقد زاد الطين بلةً تعرض محطات المعالجة المحدودة التي كانت موجودة للدمار والإهمال خلال سنوات الحرب، ما ألغى الدور الذي كانت تؤديه في منع تلوث النهر (ENABBALADI.NET) . وبذلك غابت أي حواجز تقنية تمنع تدفق الملوثات إلى المياه.
إلى جانب الصرف الصحي، تساهم الملوثات الصناعية بدور كبير في تدهور نوعية المياه. فمجرى العاصي في حمص يحتضن منشآت صناعية ثقيلة منها معمل الأسمدة (الشركة العامة للأسمدة بحمص) ومصفاة حمص للنفط، وهي مصادر مؤكدة لتصريف نفايات كيميائية في البيئة (ENABBALADI.NET). يشير تقرير صحافي استقصائي إلى أن بلدة قطينة المجاورة لبحيرة قطينة (بحيرة حمص) أصبحت من أكثر مناطق سوريا تلوثًا بسبب مخلفات معمل الأسمدة وما تحمله من غازات ومعادن سامة (DARAJ.MEDIA). يتم التخلص من هذه المخلفات بتحويلها مباشرة إلى بحيرة قطينة المتصلة بنهر العاصي، ما أدى إلى جعل مياه البحيرة غير صالحة للاستعمال وانتقال التلوث منها إلى مياه النهر (DARAJ.MEDIA). ويشمل التلوث الصناعي في النهر مواد سامة مثل الفوسفات والنترات والمعادن الثقيلة كالرصاص والزئبق الناتجة عن صناعات الأسمدة وتكرير النفط (PAXFORPEACE.NL) (PAXFORPEACE.NL). هذه الملوثات الخطرة تتراكم في التربة والمياه على حد سواء، مسببةً أضرارًا بيئية بعيدة المدى.
علاوة على ذلك، سادت حالة إهمال عام وضعت نهر العاصي في حمص خارج أولويات سلطات الأسد البائدة، حيث لم تُتخذ إجراءات فعالة خلال سنوات الحرب للحد من التعديات والتلوث (ENABBALADI.NET). التعديات شملت رمي النفايات الصلبة في مجرى النهر والاستجرار المفرط لمياهه لأغراض الزراعة دون مراعاة للحفاظ على جريانه الطبيعي. نتيجة لذلك تراجع منسوب المياه في بعض المناطق، لاسيما في فصول الجفاف، ما زاد تركيز الملوثات في الماء المتبقي. وتشير تقارير أممية إلى أن الجزء الأوسط والأسفل من نهر العاصي يعاني من ضخ مباشر لمياه الصرف غير المعالجة إلى سرير النهر، وسط غياب أي معالجة مشتركة لمشكلة جودة المياه (WATERINVENTORY.ORG). حتى المقاييس الرسمية للمياه في حمص بيّنت أن مياه النهر مخالفة للمعايير الصحية والبيئية في عدة مؤشرات (ENABBALADI.NET)، ما يدل على مدى التدهور في نوعيتها، وإن ادعى بعض مسؤولي النظام البائد سابقًا أنها لم تبلغ بعد مرحلة “الخطورة القصوى” على المزروعات (ENABBALADI.NET).
من المشاهدات الميدانية الدالة على الوضع المتردي للنهر حدوث ظواهر تلوث حادة مثل ازدهار الطحالب وتغير لون المياه ونفوق الأسماك. ففي بحيرة قطينة ذاتها رُصدت كميات كبيرة من الطحالب الضارة (الازدهار الطحلبي) بشكل متكرر خاصة في عامي 2017 و2022، ويُعزى ذلك إلى وفرة المغذيات النباتية كالنتروجين والفوسفات المتدفقة من معمل الأسمدة (PAXFORPEACE.NL). هذا الإفراط في المغذيات أدى إلى استنفاد الأكسجين في الماء (ظاهرة اختناق مائي)، متسببًا في خسائر شديدة للأنظمة الحيوية في النهر نتيجة نقص الأكسجين اللازم للكائنات المائية (PAXFORPEACE.NL). كذلك شهدت أجزاء من النهر حالات نفوق جماعي للأسماك؛ على سبيل المثال، أُبلغ في أواخر 2022 عن كارثة بيئية حين أعيد تشغيل معمل سكر تل سلحب (في حماة على مجرى العاصي) مما أدى إلى تصريف مخلفاته العضوية في النهر، فاسودّت المياه ونفقت آلاف الأسماك بأحجام وأنواع مختلفة (ENGLISH.ENABBALADI.NET). امتد تأثير هذا التلوث لمسافة طويلة من مجرى النهر، وأجبر المزارعين في منطقة الغاب على التوقف عن الري بمياهه خوفًا من تعفن جذور المزروعات (ENGLISH.ENABBALADI.NET) (ENGLISH.ENABBALADI.NET). مثل هذه الحوادث تؤكد أن نهر العاصي تحول إلى ناقل للأوبئة والكوارث البيئية عند أي تغير طارئ أو زيادة في الملوثات.
الأثر البيئي والصحي والاقتصادي على السكان
إن تدهور نوعية مياه العاصي لا يشكل مجرد مشكلة بيئية معزولة، بل يترك آثارًا سلبية متعددة الأبعاد على صحة الإنسان وسبل العيش والاقتصاد المحلي في محافظة حمص.
1. الأثر البيئي: أدى التلوث المزمن إلى إضعاف النظام البيئي النهري بشكل واضح. فالتنوع الحيوي في مياه العاصي تراجع نتيجة الظروف غير الملائمة لحياة الأسماك والكائنات المائية. حالات نفوق الأسماك المتكررة مؤشر خطير على اختلال التوازن البيئي وفقدان الأنواع الحساسة (ENGLISH.ENABBALADI.NET). كما أن نمو الطحالب الضارة بكثافة (الناتجة عن الإثراء الغذائي) تسبب في تغير لون ورائحة المياه وانتشار ظاهرة ”المياه الميتة” الخالية من الحياة في بعض مقاطع النهر (PAXFORPEACE.NL). هذه التأثيرات البيئية لا تقتصر على داخل المياه فحسب، بل تمتد لضفاف النهر حيث تراكمت الترسبات الملوثة في التربة. فقد كشفت دراسة في سهل حماة (إلى الشمال من حمص) عن تركيزات عالية من المعادن الثقيلة (مثل الكادميوم والنحاس) في تربة النهر نتيجة ترسب الملوثات مع مياه الري (PAXFORPEACE.NL). في حمص، تسربت المخلفات السامة من معمل الأسمدة إلى الأراضي الزراعية المحيطة ببحيرة قطينة، ما أدى إلى تلوث مئات الهكتارات من التربة وفقدان خصوبتها بحيث باتت غير صالحة لزراعة القمح والشعير والبقوليات التي كانت تُزرع فيها سابقًا(PAXFORPEACE.NL). وبذلك يخسر الغطاء النباتي والتربة قدرتها الطبيعية على التنقية الذاتية ودعم الحياة البرية والزراعية.
2. الأثر الصحي: ينعكس تلوث نهر العاصي بشكل مباشر على صحة سكان القرى والبلدات الممتدة على ضفافه. فالاستهلاك المباشر أو غير المباشر لمياه النهر الملوثة – سواء عبر استخدامها لري المزروعات أو تسربها إلى المياه الجوفية والآبار – يشكل خطرًا صحيًا كبيرًا. تشير التقارير المحلية إلى انتشار مشاكل صحية خطيرة بين أهالي المناطق الملاصقة لمواقع التلوث الصناعي. فعلى سبيل المثال، يعاني سكان قرية قطينة قرب بحيرة حمص من ارتفاع معدل الإصابة بأمراض مزمنة وخطيرة تشمل أمراض الجهاز التنفسي والسرطان والتشوّهات الخلقية والعقم والأمراض الجلدية التحسسية (PAXFORPEACE.NL). وقد ربط الأطباء المحليون هذه الأمراض بالتلوث الناجم عن مصانع الأسمدة والانبعاثات السامة في المنطقة (PAXFORPEACE.NL). إضافة إلى ذلك، يؤدي تصريف الصرف الصحي إلى النهر إلى انتشار مسببات الأمراض مثل بكتيريا الإشريكية القولونية وغيرها في المياه (EARTH5R.ORG)، ما يرفع خطر تفشي الأمراض المعوية بين السكان الذين قد يتعرضون للمياه الملوثة سواء عبر السباحة أو استخدام مياه الآبار القريبة من مجرى النهر. إن اعتماد كثير من السكان تاريخيًا على مياه العاصي أو فروعه لسقي المواشي أو للاستخدامات المنزلية جعلهم عرضة لهذه الملوثات. وفي ظل تدمير أكثر من نصف محطات معالجة المياه وشبكات الصرف الصحي في سوريا خلال الحرب (UNDP.ORG) (UNDP.ORG)، بات حوالي 14 مليون سوري دون مياه شرب أو صرف صحي آمن (UNDP.ORG) (UNDP.ORG)، ما يضاعف المخاطر الصحية في مناطق كحمص حيث النهر هو المصدر المائي الرئيسي.
3. الأثر الاقتصادي والمعيشي: خلّف تلوث نهر العاصي تبعات اقتصادية ملحوظة على المجتمع المحلي بحمص. القطاع الزراعي هو الأكثر تضررًا، إذ يعتمد المزارعون بشكل كبير على مياه النهر للري. تراجع جودة المياه وارتفاع نسبة الملوثات فيها أثّر سلبًا على إنتاجية الأراضي؛ فالمياه المحمّلة بالمواد السامة والملوحة العالية تؤدي إلى تلف المحاصيل أو انخفاض جودتها. اضطر بعض المزارعين في ريف حمص الشمالي وفي سهل الغاب إلى وقف ري محاصيلهم بمياه العاصي خلال فترات التلوث الشديد (مثل عند تصريف مخلفات مصانع السكر) تفاديًا لخسارة مزروعاتهم (ENGLISH.ENABBALADI.NET). هذا التوقف القسري عن الري يعني خسارة دخل للمزارعين وتهديد الأمن الغذائي المحلي. كذلك تضرّر قطاع الثروة السمكية التقليدي في النهر وبحيرة قطينة؛ فبعدما كان بعض السكان يعتمدون على صيد الأسماك كمصدر للرزق أو الغذاء، تراجعت أعداد الأسماك بشدة وبات الصيد شبه معدوم في مياه ملوثة يندر أن تعيش فيها الأسماك (ENGLISH.ENABBALADI.NET). في حالات التلوث الحاد، تنبعث من النهر روائح كريهة نتيجة تحلّل الأسماك والنباتات الميتة، مما يؤثر حتى على القيمة العقارية للأراضي المجاورة ويزعج حياة السكان اليومية.
على المدى البعيد، يتسبب التلوث بزيادة الأعباء الاقتصادية على الدولة والمجتمع. فتكلفة معالجة الأمراض المزمنة الناتجة عن التلوث وتوفير الرعاية الصحية ترتفع، إلى جانب الحاجة لتعويض النقص في المحاصيل وتعزيز الأمن الغذائي بوسائل أخرى. كما أن تأخر الاستجابة الحكومية عبر السنين فاقم المشكلة؛ إذ بقي الأهالي في حمص “غارقين في التلوث بانتظار تنفيذ وعود بالحل منذ عقود” دون جدوى (DARAJ.MEDIA) (DARAJ.MEDIA). كل ذلك يضعف الإنتاجية العامة ويستنزف الموارد المحدودة لدى السكان الذين يعانون أصلاً من ضغوط معيشية كبيرة خلال وبعد سنوات الحرب.
الوضع الاقتصادي في سوريا بعد سقوط النظام وأثره على القدرة على التدخل البيئي
ورثت الحكومة السورية الجديدة وضعًا اقتصاديًا منهارًا تقريبًا نتيجة حرب امتدت لأكثر من عقد. فقد أدت 14 سنة من الصراع وإصرار بشار الأسد على النهج الإجرامي، إلى محو منجزات عقود -على قلتها ومحدوديتها- من التنمية الاقتصادية والاجتماعية (UNDP.ORG). وتشير تقديرات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى أن الناتج المحلي الإجمالي لسوريا تقلّص إلى أقل من نصف قيمته مقارنة بعام 2011 (UNDP.ORG) (UNDP.ORG). كما تفاقمت معدلات الفقر لتصبح سوريا من أفقر دول العالم اليوم؛ إذ يعيش نحو 90% من السوريين تحت خط الفقر في عام 2023 (UNDP.ORG) (UNDP.ORG)، مقارنة بحوالي 33% قبل النزاع. وارتفعت نسبة من يقعون في الفقر المدقع إلى أكثر من 65% من السكان (UNDP.ORG). هذه الأرقام الصادمة تعني انعدام القدرة الشرائية للمواطنين وضعف الإيرادات الحكومية من الضرائب والإنتاج.
البطالة كذلك تضاعفت عدة مرات حيث يقدَّر أن واحدًا من كل أربعة سوريين عاطل عن العمل (UNDP.ORG) (UNDP.ORG). قطاع الصناعة الذي كان يتركز جزء كبير منه في حلب تضرر بشدة نتيجة الدمار أو العقوبات أو انقطاع سلاسل التوريد. البنية التحتية هي الأخرى تكبدت خسائر جسيمة؛ فقد قدّر تقرير للأمم المتحدة الخسائر الاقتصادية الإجمالية بنحو 800 مليار دولار خلال 14 سنة (UNDP.ORG). وتضررت أو دُمرت أعداد كبيرة من المنشآت الخدمية: أكثر من نصف محطات معالجة المياه والصرف الصحي خرجت عن الخدمة (UNDP.ORG) (UNDP.ORG)، وأكثر من 70% من محطات توليد الكهرباء وخطوط النقل تضررت مما قلّص القدرة الكهربائية بنسبة 80% (UNDP.ORG). كذلك ثلث المشافي والمراكز الصحية تضرر أو تعطل (UNDP.ORG)، فضلاً عن تدمير واسع في شبكات الطرق والمساكن (حيث نحو ثلث المساكن دُمر أو تضرر بشدة) (UNDP.ORG).
في ظل هذا المشهد الاقتصادي الكارثي، تجد الحكومة الجديدة نفسها ذات موارد مالية شحيحة وأولويات عاجلة عديدة. فهي مطالبة بإعادة إعمار البنى التحتية الأساسية وتأمين الاحتياجات الملحّة للسكان من غذاء ودواء ومأوى، في وقت تظل إيرادات الدولة ضعيفة. كما أن المؤسسات الحكومية ذاتها تعاني من الترهل ونقص الكوادر والكفاءات بعد سنوات من النزاع والنزوح. هذا الواقع ينعكس على القدرة على التدخل البيئي لمعالجة مشاكل كبرى كتلوث نهر العاصي؛ فمع محدودية الموازنة العامة، يصعب تخصيص موارد كافية لمشاريع بيئية ضخمة كإعادة تأهيل شبكات الصرف الصحي أو بناء محطات معالجة حديثة دون دعم خارجي.
إلى جانب شح الموارد، هناك تحدي ضعف القدرات الفنية والمؤسساتية. فوزارة البيئة والجهات المعنية ربما تفتقر للتجهيزات والخبرات اللازمة لوضع خطة سريعة وفعالة لإنقاذ نهر العاصي. خلال فترة النظام السابق، لم تحظ المشاكل البيئية بالأولوية ولم تُبنى مؤسسات قوية في هذا القطاع، وبالتالي على الحكومة الجديدة سد هذه الفجوة في ظروف استثنائية. كما أن العقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة على سوريا قد لا تُرفع بشكل فوري، مما قد يقيّد إمكانية استيراد معدات معالجة المياه أو الحصول على تمويل دولي في المدى القريب.
مع ذلك، فإن تحسّن المناخ السياسي بعد تغيير النظام قد يفتح أبوابًا للحصول على دعم دولي وتنموي كان مغلقًا. إن اعتراف المجتمع الدولي بالحكومة الجديدة واستعداد الجهات المانحة للمساهمة في إعادة الإعمار يمنح بصيص أمل. لكن عمليًا، خلال الأشهر الثلاثة الأولى، لا تزال الآليات البيروقراطية لتلقي المساعدات قيد التأسيس. في غضون ذلك يبقى الدور الأساسي في معالجة أزمة تلوث العاصي على عاتق الجهود المحلية ضمن الإمكانات المتاحة. الحكومة الجديدة وإن كانت محدودة القوة، مطالبة بوضع أولويات واضحة؛ وقد أصبحت حماية الموارد المائية من التلوث ضرورة ملحّة نظرًا لتأثيرها المباشر على صحة الناس ومعيشتهم. ورغم التحديات المالية، يمكن إطلاق إجراءات عاجلة قليلة الكلفة نسبيًا للحد من التلوث ريثما يتم تأمين دعم أكبر. كما يمكن استثمار عنصر الرغبة الشعبية بالتغيير؛ فالسكان الذين عانوا طويلًا أصبح لديهم تطلعات عالية لتحسين الخدمات الأساسية والبيئة، ما قد يساعد في حشد دعم مجتمعي لحملات تنظيف النهر ومراقبة مصادر التلوث.
لا يخفى على المتابع أنّ الأزمة الاقتصادية تحدّ بشدة من قدرة الحكومة على التدخل السريع، لكن الانفتاح السياسي وفرص التعاون الدولي المستجدة قد توفران مصادر تمويل وخبرة إذا ما تم التخطيط والتواصل بشكل فعال. التحدي أمام الحكومة الجديدة هو إدارة القليل المتاح بحكمة، والسعي بقوة لطرق أبواب المانحين والشركاء الدوليين لدعم مشاريع الإصحاح البيئي العاجلة.
حلول واقعية قابلة للتطبيق في ظل محدودية الإمكانيات
أمام خطورة الوضع البيئي لنهر العاصي وضآلة الموارد الحكومية المتوفرة حاليًا، من الضروري تبني نهج تدريجي وعملي لحماية النهر واستعادة عافيته. فيما يلي مجموعة من الحلول والإجراءات الممكنة التي تمتاز بكونها منخفضة الكلفة نسبيًا أو قابلة للتنفيذ بالاعتماد على الدعم المحلي والدولي المحدود، مع ترتيب أولويات التنفيذ:
وقف مصادر التلوث الأكثر خطورة أولًا: ينبغي التركيز فورًا على الحد من التصريف الصناعي السام في النهر. يمكن للحكومة الجديدة إصدار قرارات ملزمة للمصانع الكبيرة (مثل معمل الأسمدة ومصفاة حمص) بوقف تصريف الفضلات غير المعالجة مؤقتًا، ريثما يتم إيجاد حلول معالجة بديلة. على سبيل المثال، يمكن تشغيل وحدات معالجة أولية بسيطة في هذه المنشآت أو جمع نفاياتها الخطرة وتخزينها بشكل آمن بدل رميها في النهر. من المهم أيضًا إيقاف تشغيل أي منشأة يتعذر ضبط ملوثاتها لحين تركيب معدات تنقية -لو تحققت مصلحة الأولى فالأولى ضمن احتياجات المواطن-.
إدارة مياه الصرف الصحي بالحلول اللامركزية: نظرًا لدمار محطات المعالجة المركزية، يمكن اعتماد حلول لامركزية منخفضة التكلفة لمعالجة مياه الصرف في القرى قبل وصولها للنهر. على سبيل المثال، إنشاء برك أكسدة أوWetlands اصطناعية صغيرة عند كل قرية لتمرير مياه المجاري خلالها، حيث تقوم النباتات والميكروبات الطبيعية بتنقية بعض الملوثات. هذه التقنية مجرّبة في دول عديدة كوسيلة اقتصادية لمعالجة مياه الصرف على نطاق ضيق دون حاجة لطاقة أو تقنيات معقدة (UNEP.ORG).
كما يمكن استخدام أنظمة معالجة لامركزية جاهزة (DEWATS) لا تعتمد على الكهرباء، تم تطويرها خصيصًا للبلدان النامية (UNEP.ORG). مثل هذه النماذج تُطبق حاليًا في مدن نامية كدار السلام في تنزانيا، وتمنح أملاً في القدرة على توفير حل مستدام للمياه الملوثة بتكاليف تشغيل منخفضة (UNEP.ORG).
على المدى القصير، يمكن البدء بحفر حفر فنية للصرف الصحي في القرى كحل مؤقت لمنع تدفق المجاري إلى النهر، مع تفريغها دوريًا باستخدام صهاريج (إن وجدت) ونقلها إلى مواقع معالجة بعيدة. قد يتطلب ذلك دعمًا لوجستيًا من منظمات دولية لتأمين صهاريج ووقود.
حملات تنظيف وضبط المخلفات الصلبة: يمكن إطلاق حملات شعبية وجمعيات أهلية بتنظيم من البلديات لجمع القمامة والنفايات المتراكمة على ضفاف النهر وفي مياهه الضحلة. هذه الحملات، بدعم إعلامي، ترفع الوعي وتخفف من التلوث المنظور (كالأكياس والبلاستيك وبقايا المواد). مشاركة المتطوعين المحليين في تنظيف أجزاء من النهر ستساهم في استنهاض حس المسؤولية المجتمعية، كما حدث في مبادرات تنظيف أنهار في دول أخرى نجحت بفضل العمل التطوعي (EARTH5R.ORG) (EARTH5R.ORG).
يمكن أيضًا تركيب شبكات أو حواجز بسيطة عند نقاط مختارة من مجرى النهر لالتقاط المواد الصلبة العائمة (مثل فروع الأشجار أو النفايات البلاستيكية الكبيرة) قبل استمرار جريانها، ثم إزالتها بشكل دوري. هذه الفكرة تطبقها مبادرات شبابية لمكافحة تلوث الأنهار بالقمامة في بعض المدن الآسيوية.
إصلاح عاجل للبنية التحتية الحيوية: ضمن الإمكانات المتاحة، على الحكومة إعطاء أولوية لإعادة تشغيل محطات المعالجة القديمة التي يمكن إصلاحها جزئيًا بأقل تكلفة. مثلًا، إذا وُجدت محطة معالجة كانت تخدم مدينة حمص أو مناطق صناعية وتضررت، يمكن تقييم إمكانية تشغيلها بطاقة جزئية لالتقاط جزء من الملوثات. حتى إجراء صيانة مؤقتة لمحطة ضخ مياه الصرف (إن وُجدت) قد يخفف من تدفق الملوثات إلى النهر. كذلك ينبغي صيانة خطوط الصرف الصحي المكسورة التي تصب مباشرة في العاصي، ولو بحلول إسعافية (كتوصيل أنابيب مؤقتة لتوجيه التدفق بعيدًا عن النهر أو سد المنافذ المفتوحة). هذه الأعمال ربما تتطلب جهود فرق هندسية محلية بالتعاون مع الدفاع المدني (الخوذ البيضاء).
تخفيف استخدام مياه النهر مؤقتًا للري والشرب: إلى أن تتحسن نوعية المياه، ينبغي توعية المزارعين بمخاطر استخدام مياه العاصي الملوثة لري الخضروات والأشجار المثمرة، خاصة تلك التي تؤكل نيئة. يمكن توفير إرشادات لاستخدام مياه آبار بديلة (إن وجدت) أو خلط مياه النهر بمياه أنظف إن أمكن لتخفيف تركيز الملوثات. كذلك يجب تنبيه الأهالي إلى عدم استخدام مياه النهر للشرب أو الغسيل إطلاقًا دون تعقيمها. توفير مصادر مياه صالحة للشرب – ولو عبر نقل مياه بالصهاريج إلى القرى – سيكون إجراء إغاثيًا مهمًا لحماية الصحة العامة، ويمكن طلب مساعدة عاجلة من اليونيسف أو الصليب الأحمر في هذا الخصوص.
وقم تم بالفعل إنجاز مشروع مدعوم بمنحة إيطالية عبر اليونيسف تمكّن من إيصال مياه نظيفة وصرف صحي محسّن لما يقارب 4500 شخص في حمص عام 2022 (ENABBALADI.NET) (ENABBALADI.NET)، ما يدل على إمكانية تحصيل دعم دولي سريع لمثل هذه التدابير.
إطار قانوني ورقابي جديد: ينبغي للحكومة سنّ أو تحديث التشريعات البيئية المتعلقة بحماية الموارد المائية. مثلًا، تشديد العقوبات على أي جهة تلقي نفايات صناعية أو طبية في المجاري المائية، وفرض غرامات كبيرة على المخالفين. كما يمكن إصدار قرارات بإنشاء مناطق حرم آمنة على جانبي النهر يمنع فيها البناء العشوائي أو الأنشطة المضرة (كغسل المركبات أو رمي الأنقاض).
ورغم أن إنفاذ القوانين قد يواجه صعوبات في البداية، إلا أن وجودها يرسل رسالة واضحة ويؤسس لإدارة أفضل مستقبلاً. بالتوازي، يمكن تكليف لجان محلية أو فرق رقابة بيئية (بمشاركة الأهالي) لمتابعة مصادر التلوث والإبلاغ الفوري عن أي تجاوز، بحيث تصبح المساءلة المجتمعية أداة مساندة للرقابة الرسمية المحدودة.
خطط طويلة الأجل بالتعاون مع المانحين: إلى جانب الحلول الإسعافية، يجب العمل من الآن على إعداد خطة شاملة لإعادة تأهيل النهر على المدى المتوسط. هذه الخطة تتضمن مشروع إنشاء محطات معالجة حديثة للصرف الصحي والصناعي، وإعادة تشجير ضفاف النهر، وترميم السدود والخزانات لضمان جريان مائي كافٍ لتخفيف تركيز التلوث. يمكن تقسيم المشروع إلى مراحل وميزانيات تفصيلية، ليُصار إلى عرضها على الجهات الدولية المانحة (البنك الدولي، الاتحاد الأوروبي، الصندوق العربي للإنماء، إلخ) للحصول على تمويل. وجود رؤية واضحة ومدروسة سيزيد فرص جذب الدعم عندما تتحسن الظروف.
إنّ العمل التدريجي على طريق الحل ربما هو السبيل الوحيد المتاح حاليًا، إذ لا يمكن حل مشكلة متراكمة عبر السنين بإجراءات سريعة آنيّة. فحتى خطوات صغيرة الآن – كمنع مصدر تلوث كبير أو توفير مضخة لمعالجة موضعية – سيكون لها أثر تراكمي مهم على مدى السنة أو السنتين القادمتين، إلى أن تصبح الموارد الحكومية متاحة لمشاريع أكبر. المهم هو البدء فورًا وبأوسع مشاركة ممكنة من المجتمع المحلي لضمان ديمومة هذه الحلول المؤقتة وتحويلها إلى ثقافة عامة في التعامل مع البيئة.
نماذج من دول نامية نجحت في مواجهة تلوث الأنهار
على الرغم من صعوبة مشكلة تلوث نهر العاصي، هناك تجارب ناجحة من دول نامية تمكنت من تحسين أوضاع أنهار ملوثة بموارد محدودة وظروف معيشية صعبة. فيما يلي عرض لبعض هذه التجارب والدروس المستفادة منها:
التجربة الهندية (تنظيم المجتمع المحلي وتنظيف نهر ملوث)
شهدت الهند مبادرات رائدة قادها المجتمع المدني بالتعاون مع السلطات المحلية لاستعادة الأنهر في المدن المكتظة. على سبيل المثال، مبادرة تنظيف نهر ميتي (Mithi River) في مدينة مومباي قدمت نموذجًا لكيفية تعبئة المتطوعين والسكان لجمع النفايات واستعادة مجرى النهر تدريجيًا. منظمة بيئية محلية تدعى Earth5R نظّمت حملة تطوعية واسعة النطاق لتنظيف نهر ميتي، وأثبتت أن المشاركة الشعبية مع خطط علمية يمكنها إحداث تغيير ملموس حتى في نهر ملوّث للغاية (EARTH5R.ORG) (EARTH5R.ORG). شملت الحملة آلاف الطلبة والأهالي، وأسفرت عن إزالة كميات ضخمة من القمامة ورفع الوعي البيئي لدى المجتمع. استفادت المبادرة من أساليب بسيطة لكنها فعالة مثل تحديد “النقاط الساخنة” الأكثر تلوثًا ومعالجتها أولاً، واستخدام حواجز لجمع النفايات العائمة (EARTH5R.ORG) (EARTH5R.ORG). النتيجة كانت تحسّن ملحوظ في نوعية المياه وتقليل مخاطر الفيضانات التي كانت تزداد بسبب انسداد مجرى النهر بالقمامة (EARTH5R.ORG) (EARTH5R.ORG).
الدرس المستفاد من الهند هو قوة العمل المجتمعي؛ عندما يتم إشراك السكان المتضررين أنفسهم في الحل، يمكن تحقيق إنجازات سريعة نسبيًا وبتكلفة منخفضة، إضافة إلى بناء وعي يستمر أثره. كما أن العلمية في التخطيط (كإجراء مسوحات لتحديد مصادر التلوث ومراقبة مؤشرات جودة المياه) عززت مصداقية تلك الجهود (EARTH5R.ORG) (EARTH5R.ORG). ويمكن لسوريا أن تحاكي هذه التجربة بتشجيع مبادرات أهلية تحت إشراف فني من خبراء البيئة المحليين.
التجربة البنغلاديشية (تحسين خدمات الصرف الصحي للحد من التلوث)
بنغلاديش دولة نامية ذات موارد محدودة وكثافة سكانية عالية، لكنها حققت تقدمًا كبيرًا في مجال الحد من التلوث الناجم عن الصرف الصحي عبر تحسين مرافق المياه والإصحاح. أطلقت بنغلاديش منذ التسعينات مبادرات الصرف الصحي المجتمعي ومشاريع بناء مراحيض بأسعار زهيدة في القرى والأحياء الفقيرة، ما قلل بشكل جذري من التخلص المفتوح للمخلفات البشرية في الطبيعة. ونتيجة لهذه الجهود، ارتفعت نسبة السكان الحاصلين على مرافق صرف صحي أساسية إلى مستويات رائدة في العالم النامي؛ فاليوم فقط حوالي 3% من سكان بنغلاديش يمارسون التغوّط في العراء مقارنة بـ34% عام 1990 (BLOGS.WORLDBANK.ORG) (BLOGS.WORLDBANK.ORG). هذا التحول الضخم نتج عن حملات توعية وتغيير سلوك إلى جانب بناء آلاف دورات المياه منخفضة التكلفة، فيما يعرف بمبادرة “الصرف الصحي المجتمعي الشامل” التي انطلقت من إحدى قرى شمال بنغلاديش ثم انتشرت عالميًا (BLOGS.WORLDBANK.ORG) (BLOGS.WORLDBANK.ORG).
أثر ذلك على أنهار بنغلاديش كان إيجابيًا، إذ انخفض تلوث المجاري المائية بمخلفات الإنسان، وتحسنت الصحة العامة بتراجع أمراض الإسهالات بشكل ملحوظ. ورغم أن التصريف الصناعي ما زال تحديًا، فإن الحكومة اتخذت خطوات مثل نقل مصانع الدباغة شديدة التلوث خارج العاصمة وإنشاء محطات معالجة مركزية لها، لحماية نهر بوريغانغا الذي عانى طويلًا من النفايات الصناعية.
من تجربة بنغلاديش يمكن اقتباس أهمية الاستثمار في البنية التحتية البسيطة للصرف الصحي كخطوة أولى لمعالجة التلوث – فهي ليست باهظة الثمن مقارنة بعائدها الصحي والبيئي. كذلك تبرز قيمة تغيير السلوك عبر التوعية؛ إذ أن إشعار الناس بمسؤوليتهم عن نظافة بيئتهم يحقق نتائج دائمة أكثر من أي إجراء قسري. ويمكن في حمص تطبيق برامج توعية صحية مشابهة لتلك التجربة لحثّ الأهالي على عدم تصريف النفايات والمجارير إلى النهر مباشرة والاستفادة من أي بدائل متاحة.
التجربة الرواندية (حوكمة قوية ومشاركة شعبية لتنظيف البيئة)
رواندا، الدولة الأفريقية الصغيرة، أصبحت مثالًا عالميًا في العقود الأخيرة على النجاح في بناء بيئة نظيفة رغم مواردها المحدودة وظروفها ما بعد النزاع. اتبعت رواندا سياسة حازمة تجاه النفايات والتلوث، فكانت من أوائل الدول التي حظرت الأكياس البلاستيكية بالكامل عام 2008 في إطار رؤية وطنية لبلد أخضر (UNDP.ORG) (UNDP.ORG). الأهم من سن القوانين كان تطبيقها الصارم بمشاركة المواطنين؛ حيث أطلقت رواندا برنامج “أوموغندا” (Umuganda) الذي يخصص يوم سبت من كل شهر للعمل التطوعي المجتمعي في النظافة والتشجير والصيانة. خلال أوموغندا، يشارك المواطنون من جميع الفئات -بما فيهم القادة- في تنظيف الشوارع والأنهار وإزالة الأعشاب الضارة وغرس الأشجار. هذه الممارسة عززت الشعور بالملكية المجتمعية للبيئة وحافظت على مدن رواندا نظيفة لدرجة أن عاصمتها كيغالي صُنّفت أنظف مدينة في أفريقيا (UNDP.ORG) (UNDP.ORG). كما نجحت رواندا في تقليل تلوث الموارد المائية عبر مبادرات إدارة مياه الأمطار ومنع جرف التربة إلى الأنهار، الأمر الذي حدّ من الطمي والتلوث في بحيراتها وأنهارها. خلاصة تجربة رواندا هي أهمية الإرادة السياسية المتبوعة بإجراءات تنفيذية حازمة، إلى جانب التعبئة الشعبية. فحين يرى المواطن أن الدولة جادة في حماية البيئة ومستعدة لفرض غرامات مثلاً (وصلت إلى 60 دولار لمن يحمل كيسًا بلاستيكيًا (UNDP.ORG) (UNDP.ORG))، يتغير سلوكه بسرعة. وحين يُدعى للمشاركة المباشرة في الحل عبر حملات وطنية، يتولد لديه شعور بالفخر والمسؤولية.
في السياق السوري، يمكن استلهام هذه التجربة ببدء حملة وطنية شهرية لتنظيف المدن والأنهار تشارك فيها المجتمعات المحلية، وإصدار قوانين حضر استخدام ملوثات معينة (مثل منع رمي الأنقاض أو المخلفات الصناعية دون معالجة). صحيح أن تطبيق القوانين في سوريا بحاجة لتحسين قدرة أجهزة الدولة، لكن البداية يمكن أن تكون بحملات شعبية تدعمها السلطات المحلية، ما يخلق زخمًا نحو بيئة أنظف.
هذه النماذج من الهند وبنغلاديش ورواندا تبيّن أنه حتى في الدول النامية، هناك إمكانية لإحداث تغيير إيجابي في مواجهة تلوث الأنهار من خلال مزيج من: الإرادة الرسمية، المشاركة الشعبية، والحلول المبتكرة منخفضة التكلفة. الدرس الجامع هو أن مشكلة تلوث الأنهار ليست مستحيلة الحل مهما تفاقمت، بل تحتاج لإدارة واعية وشاملة تأخذ بعين الاعتبار العوامل الاجتماعية والاقتصادية وتستخدم ما هو متوفر من موارد بكفاءة.
جهات ومنظمات دولية لدعم جهود إنقاذ نهر العاصي وآليات التعاون
نظرًا لحجم مشكلة تلوث نهر العاصي وتعقيداتها التقنية، فإن الحكومة السورية الجديدة بحاجة ماسة إلى دعم خارجي من خبرات وتمويل لمواجهة هذه الأزمة البيئية. فيما يلي أبرز الجهات الدولية والمنظمات الأممية وغير الحكومية التي يمكن مخاطبتها للحصول على دعم فني أو مالي أو تقني، مع توضيح سبل وآليات التعاون معها:
برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP)
UNEP هو الذراع البيئي الرئيسي للأمم المتحدة ويمكن أن يوفر دعمًا تقنيًا واستشاريًا للمشاريع البيئية في سوريا. يمكن للحكومة التواصل مع مكتب غرب آسيا لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة لإيفاد خبراء تقييم يجرون دراسة تفصيلية عن تلوث نهر العاصي ويقترحون خطة طوارئ. لدى UNEP خبرة في إدارة التلوث في مناطق نزاع سابقة (مثل العراق ولبنان) ويمكنها تقديم المشورة حول أفضل الممارسات في معالجة مياه الصرف ومخلفات المصانع. كما يمكن لـ UNEP المساعدة في تنسيق جهود إقليمية بما أن نهر العاصي مشترك بين لبنان وسوريا وتركيا، وذلك ضمن مبادرات الإدارة المتكاملة للمياه العابرة للحدود. آلية التعاون قد تشمل توقيع مذكرة تفاهم بين وزارة البيئة السورية وUNEP تحدد مجالات الدعم المطلوب (مثل بناء القدرات، إجراء تحاليل مخبرية للمياه والتربة، تطوير خطة عمل بيئية). قد يستطيع البرنامج أيضًا توفير منح صغيرة (Small Grants) عبر مرفق البيئة العالمية لمشاريع عاجلة مثل إنشاء نظم معالجة لامركزية أو تنظيف بقع التلوث الساخنة.
برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)
يتمتع UNDP بحضور ميداني في سوريا (حتى خلال سنوات الحرب) ويركز على برامج التعافي والتنمية. يمكن للحكومة السورية الجديدة الاستفادة من برامج التعافي المبكر التابعة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي لإدراج مشروع إعادة تأهيل نهر العاصي كجزء من خطط إعادة الإعمار. لدى UNDP القدرة على توفير تمويل ودعم إداري لمشاريع البنية التحتية الصغيرة وتشغيل العمالة المحلية في تنفيذها (نظام المال مقابل العمل).
مثلًا، يمكن تصميم مشروع تحت إشراف UNDP لتوظيف شباب حمص في تنظيف مجرى النهر وإصلاح مرافق المياه مقابل أجر رمزي، ما يحقق هدفين: بيئي واجتماعي (توفير فرص عمل). كما يمكن لـ UNDP تمويل شراء معدات أساسية (مضخات، فلاتر مياه، حاويات نفايات) وتدريب كوادر محلية على تشغيلها. عمليًا، يمكن التعاون عبر مكتب UNDP في دمشق بتقديم مقترح مشروع وطني لإصحاح المياه في حمص مرفق بدراسة جدوى وبيانات التلوث (والتي يمكن الاستعانة بـ UNEP لجمعها). إذا أقر UNDP المشروع، سيعمل كجهة منفذة بالشراكة مع الوزارات السورية، مما يضمن الشفافية والفاعلية. يُذكر أن الـ UNDP ساهم في دول أخرى ما بعد النزاعات في مشاريع مشابهة، وبالتالي لديه نماذج جاهزة يمكن تكييفها لسوريا.
مرفق البيئة العالمي (GEF)
يعتبر الـ GEF آلية تمويل دولية تمنح منحًا للدول النامية لمشاريع ذات منفعة بيئية عالمية، بما في ذلك حماية الموارد المائية الدولية ومكافحة التلوث. ونظرًا لأن نهر العاصي نهر عابر للحدود ويصب في البحر المتوسط، فإن تحسين نوعية مياهه له أثر يتجاوز سوريا ليشمل الإقليم (مثلاً تقليل التلوث الواصل للبحر). تستطيع الحكومة الجديدة التقدم بطلب تمويل إلى مرفق البيئة العالمي بالتنسيق مع إحدى وكالات الـ GEF (مثل UNDP أو البنك الدولي) لتنفيذ مشروع متكامل لإدارة مياه العاصي. عادةً، يتطلب الأمر إعداد وثيقة مشروع مفصلة تبين خطورة المشكلة وأهداف المشروع (مثل تقليل تصريف الملوثات بنسبة كذا، أو إنشاء محطة معالجة تخدم عدد من السكان)، مع إيضاح التمويل المطلوب. الـ GEF يمكن أن يقدم منحة قد تصل لبضعة ملايين الدولارات إذا تم تصنيف المشروع ضمن مكون المياه الدولية أو التلوث الكيميائي.
الخطوة الأولى ستكون التواصل مع نقطة الاتصال الوطنية للـ GEF في وزارة البيئة السورية (إن وجدت) أو تعيين منسق لهذا الملف، ثم طلب دعم الـ UNDP في إعداد مقترح. الجدير بالذكر أن شركات روسية كانت قد استثمرت في معامل الأسمدة بحمص (DARAJ.MEDIA)، مما يعني وجود بعد دولي يمكن استثماره لجذب اهتمام الـ GEF وشركائه تحت إطار معالجة الضرر البيئي العابر للحدود.
منظمة الصحة العالمية (WHO) ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (UNICEF)
هاتان المنظمتان معنيتان بقضايا المياه الصحية (WASH). اليونيسف بشكل خاص نشطت خلال الحرب في توفير مياه الشرب وإصلاح شبكات المياه في مناطق عدة. ويمكن الاستفادة من خبرة اليونيسف في مشاريع المياه والصرف الصحي لدعم حمص. مثلًا، اليونيسف قادرة على تمويل وتأمين محطات تنقية مياه متنقلة توضع على النهر لسحب كميات من المياه وتنقيتها لتصبح صالحة للشرب للسكان المحتاجين، كما تستطيع متابعة مبادرة إيصال المياه النظيفة التي بدأت بمنحة إيطاليا (ENABBALADI.NET). أيضًا، قد تساعد اليونيسف في إعادة تأهيل مرافق الصرف الصحي للمدارس والمراكز الصحية القريبة من النهر لمنع تلوث إضافي. منظمة الصحة العالمية يمكنها المساهمة عبر رصد الوضع الصحي المرتبط بالتلوث وتزويد وزارة الصحة بإرشادات للتعامل مع الأمراض الناجمة عن المياه الملوثة. كما قد توفر مختبرات متنقلة لفحص عينات المياه دورياً وتنبيه المجتمع من أي أخطار صحية وشيكة. التعاون مع هاتين المنظمتين يكون عبر فرقها العاملة في سوريا وخطط الاستجابة الإنسانية، ويمكن للحكومة الجديدة إدراج احتياجات حماية نهر العاصي ضمن خطة التعافي الصحي والبيئي التي تدعمها الأمم المتحدة.
المنظمات الدولية غير الحكومية المعنية بالمياه (مثل Water.org وWaterAid وغيرها)
منظمة Water.org على سبيل المثال معروفة بتقديم حلول تمويلية مبتكرة للأفراد والمجتمعات للحصول على خدمات مياه وصرف صحي. تعمل Water.org في دول آسيوية وأفريقية عديدة على توفير قروض صغيرة للأسر الفقيرة لبناء مراحيض أو تمديدات مياه (EN.WIKIPEDIA.ORG) (EN.WIKIPEDIA.ORG). يمكن استقطاب مثل هذه المنظمة للعمل في سوريا بعد الاستقرار النسبي، حيث تستطيع بالتعاون مع جمعيات محلية إطلاق برنامج إقراض متناهي الصغر لمساعدة القرى المحرومة على إنشاء مرافق صرف صحي خاصة بكل منزل، بدل اعتماد التصريف للأنهار. نجاح Water.org قائم على شراكة مع مؤسسات مالية محلية في البلدان المستهدفة (EN.WIKIPEDIA.ORG) (EN.WIKIPEDIA.ORG)؛ لذا يمكن للمصرف الزراعي أو التسليف الشعبي في سوريا أن يكون شريكًا محليًا إذا تم التفاهم وتوفير الضمانات عبر مانحين. الدور الحكومي هنا هو تسهيل عمل المنظمات غير الحكومية عبر منحها التصاريح اللازمة وتذليل العقبات البيروقراطية، بالإضافة إلى دعم جهودها توعويًا وإعلاميًا لضمان إقبال المجتمعات على الاستفادة من برامجها. إلى جانب Water.org، هناك منظمات مثل WaterAid والصندوق العالمي للمياه وغيرها ممن قد تبدي اهتمامًا بدعم سوريا في تحسين مياهها، لا سيما إذا تم إبراز البعد الإنساني والصحي لمشكلة تلوث العاصي.
جهات دولية ثنائية ومبادرات إقليمية
يمكن للحكومة أيضًا طلب العون عبر القنوات الثنائية؛ فمثلاً الاتحاد الأوروبي قد يمول مشاريع بيئية ضمن حزمة دعم إعادة الإعمار إذا لمس جدية وإصلاحات من الحكومة الجديدة. بعض الدول المانحة كألمانيا وهولندا لديها برامج دعم للمياه يمكن تخصيص منح منها لسوريا عبر منظماتها التنموية (مثل الوكالة الألمانية GIZ). كذلك الدول المجاورة كلبنان وتركيا معنية بجودة مياه العاصي، فمن الممكن إحياء لجنة مشتركة لإدارة نهر العاصي (كانت موجودة في الماضي) لتنسيق الجهود، ويمكن دعوة لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لغرب آسيا (الإسكوا) أو مبادرة مياه المتوسط لرعاية هذا التعاون. الدعم الإقليمي قد يتضمن تبادل خبرات، على سبيل المثال، استفادة سوريا من تجربة الأردن في إدارة ندرة المياه وتدويرها، أو خبرة مصر في معالجة مياه الصرف واستخدامها للري.
في جميع الأحوال، نجاح التعاون مع هذه الجهات يتطلب من الجانب السوري خطوات استباقية مدروسة. على الحكومة إعداد ملفات فنية عن حالة نهر العاصي مدعومة بالبيانات (وهنا أهمية المسح البيئي العلمي)، وتحديد قائمة باحتياجات محددة يمكن للجهات المختلفة تغطية كل منها. مثلاً: تحتاج لمحطة معالجة متنقلة – توجه الطلب لليونيسف؛ تحتاج لدعم مالي كبير – تتجه للـ GEF أو البنك الدولي؛ تحتاج خبرات تخطيط – تتجه لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة؛ تحتاج حلول مجتمعية – تتواصل مع Water.org… وهكذا. كما يجب تعيين نقاط اتصال رسمية للتواصل مع كل جهة وتسهيل مهامها داخل سوريا. التنسيق بين الوزارات (البيئة والإدارة المحلية والموارد المائية والصحة) كذلك ضروري ليكون الخطاب السوري موحدًا ومتكاملاً أمام الشركاء الدوليين.
وأخيرًا، لا بد من الإشارة إلى أن المجتمع الدولي أبدى اهتمامًا متزايدًا بقضايا البيئة في سياق إعادة الإعمار. وقد يكون تلوث نهر العاصي قضية نموذجية يمكن طرحها في المحافل الدولية ونوادي إعادة الإعمار، كجزء من التزام سوريا الجديد بحماية بيئتها، وبالتالي استقطاب الدعم ضمن الصناديق البيئية والمناخية العالمية.
خاتمة
في الختام، يتضح أن وضع نهر العاصي في محافظة حمص بعد سقوط النظام السابق يمثل تحديًا بيئيًا وإنسانيًا ملحًا لا يحتمل التأجيل. فسنوات الحرب والإهمال تركت النهر في حالة يرثى لها من التلوث، ما يهدد صحة السكان ومعيشتهم ويتطلب تحركًا عاجلًا رغم ضيق ذات اليد.
لقد حاول هذا التقرير رسم صورة شاملة للمشكلة من جوانبها كافة: توصيف دقيق للمصادر الرئيسية للتلوث (الصرف الصحي غير المعالج والنفايات الصناعية) (ENABBALADI.NET)، وبيان الأضرار البيئية من نفوق للثروة السمكية وتسمم للتربة والمياه (ENGLISH.ENABBALADI.NET) (PAXFORPEACE.NL)، وكذلك الآثار الصحية الخطيرة التي بدأت تظهر بين الأهالي (PAXFORPEACE.NL). كما وُضع السياق الاقتصادي الراهن في الحسبان، حيث تقف الحكومة الجديدة على أرضية اقتصادية هشة تجعلها بحاجة للشراكة مع مجتمعها ومع المجتمع الدولي لمعالجة هذه الأزمة.
على الرغم من جسامة التحديات، فإن التجارب الدولية تبعث برسالة أمل: بإمكان الشعوب والدول النهوض بمواردها الطبيعية من جديد متى ما توفرت الإرادة والتنظيم. ونهر العاصي، بتاريخيه الطبيعي والحضاري، يستحق أن يكون ضمن أولويات إعادة البناء.
لقد عُرف العاصي في التاريخ بأنه النهر “المتمرد” الذي يجري بعكس الاتجاه نحو الشمال، وربما آن الأوان ليرمز أيضًا إلى تمرد إيجابي على واقع التلوث والإهمال نحو مستقبل مستدام.
إن تضافر جهود الحكومة والمجتمع المحلي بدعم من الخبرات العالمية يمكن أن يعيد لعروس نهر العاصي رونقها، فيعود موردًا للحياة لا مصدرًا للمرض. تحقيق ذلك يتطلب التخطيط العلمي والصبر في التنفيذ، فالمشكلات المتراكمة لعقود لن تُحل في أيام. لكن البداية الآن ضرورية حتى لا نخسر ما تبقى من هذا المورد الثمين. ولعل الخطوات المتواضعة الأولى التي تُتخذ اليوم -كمنع مصنع ملوث أو تنظيف جزء من النهر- ستكون هي نفسها التي يُبنى عليها غدٌ أفضل لأهل حمص ولجميع السوريين، الذين يستحقون أن ينعموا ببيئة صحية ضمن عملية التعافي الوطني الشاملة.
المراجع والمصادر
- التقارير والتصريحات الرسمية المحلية (مديرية البيئة في حمص) (ENABBALADI.NET) (ENABBALADI.NET).
- تحقيقات صحفية سورية مستقلة (عنب بلدي، درج) (ENABBALADI.NET) (DARAJ.MEDIA).
- دراسات وتقارير دولية (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP.ORG) (UNDP.ORG)، (PAXFORPEACE.NL) (PAXFORPEACE.NL) (WATERINVENTORY.ORG).
- مقالات إنجليزية (Enab Baladi English) (ENGLISH.ENABBALADI.NET) (ENGLISH.ENABBALADI.NET).
- تجارب دولية موثقة (World Bank, UNEP, Earth5R) (BLOGS.WORLDBANK.ORG) (EARTH5R.ORG).
- بيانات منظمات أممية وإنسانية عاملة في سوريا (اليونيسف وغيرها).




